عراق اخر من خلال عيون العاهرات و القوادين

بقلم/ د.ماجدة غضبان المشلب

لا اعرف اين تقع تل اللحم قبل ان احمل كنزي الغالي بين يدي رواية ” تل اللحم ” للروائي العراقي العظيم ” نجم والي ” ، فأنا لم اولد فيها رغم عمق جنوبيتي لكن بضعة اسئلة طرحتها على والدتي و اختي الكبرى بينت لي موقعها وبعض الاحداث العميقة الاثر في التأريخ المتناقلة عبر التراث الجنوبي اضافة الى بحث بسيط من خلال غوغل كشف لي عن عدة معارك قبلية و تأريخية قد جرت في الموقع ذاته مما اضاف اطنانا من اللحم الى التل المحصور بين دفتي كتاب كان قد انتهى الى مجرد تل من اللحم فعلا ، فلا الناس الذين يعيشون فيها عراقيون او حتى ينتمون الى ما يمكن تسميتهم بالبشر و لا رائحة وطني الزكية تفوح منه رغم واقعية الاماكن الاخرى المذكورة فيها بالاسم مع مجموعة كبيرة من اسماء الممثلين والشعراء ممن ادخلت تحويرات مواربة على اسمائهم الحقيقية المعروفين بها.

ببساطة شديدة لا يصعب على المتلقي العادي ان يخمن ان مؤلف الرواية لم يتواجد في قلب الحدث حينه كما كان مروره على حياة معالي المضطربة جنسيا مرورا ذكوريا متعاليا لم يرتق لجل معاناتها واقعا وان كان يلوح برمزية التعبير والخلط بين الوهم والواقع خلطا جاء تهربا من خلل تعبيري وادراكي ربما ظل خير عون له في رسم شخصية في منتهى التعقيد بالنسبة لرجل شرقي يدعونها المومس (معالي).

و ماهو اشد بساطة من ذلك ان يجزم المرء وهو يتابع الرواية دونما شغف كبير (خاصة ان كان عراقيا قد خاض محن تلك الفترة للمسافة التي تحول بالوان تهريجها الباذخ بينه وبين ابطال الرواية) ان المؤلف قد اتخذ موقعا يكاد لا يتغير ابدا مع مجريات الاحداث خلف الشخوص يهمس بجلاء من خلال ساحة تلقين واسعة ما على المساهمين في عمله الروائي قوله و كأنه في مسرح دمى ليس عليه ان يبذل كثيرا من الجهد لاخفاء خيوط التحريك السوداء.

هنالك تقنية عالية في تتبع مسالك الاحداث وقدرة على القيادة الفاعلة لرواية محكمة فنيا تشي بتأريخ اكاديمي قد البس الروائي درعا محصنا امام عين الناقد وان عثر على الكثير من الدلائل التي تؤشر بان الرواية قد كتبت بلغة اخرى قبل ان يتم نقلها الى العربية بسبب تكرار بعض من المفردات والعبارات احيانا دونما تصميم على اظهارها كالذي بدا جليا في بعض العبارات الملحة بتكرارها المتعمد على مدار النص الروائي.

لقد تم خذلان “معالي” (البطلة الرئيسية) تماما كمركب انثوي – انساني منذ السطور الاولى و هو خذلان يتناسب مع حجم الظلم الاجتماعي المؤطر بالسلطة الذكورية و ان حاول الروائي الفرار منه رغبة في التخلص من جذوره الشرقية الضاربة بعمق في احتوائه الاعظم لرواية تتناول مجريات حربين أثرتا في تأريخ العالم كله وهزتا دعائم اقتصاده او ربما رممتهما قبل الانهيار التام في حرب الخليج الثالثة ، كذلك كان حملها لحقيبة ثقيلة لا معنى لها متمثلة باسمها الغريب تماما على الاذن العراقية “معالي” التي قد تلتقطه بسهوله في بلدان عربية اخرى يكون مثيله شائعا و دارجا.

بلى لقد “اصبح العراق ماخورا كبيرا” لكن ليس بالنسبة للشعب العراقي بل لمن حكموه ولا ينطبق هنا المثل المعروف (رأس السمكة خايس) لأنهم لم يشكلوا يوما جزءا من الديكور المأساوي العراقي ولم يمتزجو به بل انفصلوا عنه انفصال الزيت على سطح ماء رائق و انفصمت عراهم كأبواب مخلوعة تسمح بمرور كل قذاراتهم الى داخل عالمهم هم و هنا قد سلط ظلم كبير على العراقيين حين تم خلطهم بشكل غير منسجم مطلقا حتى في رواية ناضجة قطفتها كف خيال روائي ماهرة.

كان “تفرجا على استعراض العالم” اجل … ولكن من قبل دمى خشبية لا تتفاعل ولا تعطي ولا تأخذ لسبب مهم وجدير بالاشارة اليه ان الاستاذ نجم والي اراد ان ينأى بنفسه بعيدا عن الاحداث لتبدو اشد قربا للحقيقة لكنه للاسف لم يقترب.

لا اريد ان اكون قاسية جدا مع رواية من النوع الصقيل فنيا فاقول ان تل اللحم هي اساءة لتاريخ شعب وليس وصفا لعراق (عرفته جيدا) جاء من خلال عاهرات العائلة الحاكمة وقواديها اذ كان العمل يفتقر الى الفصل بين الوان النسيج المجتمعي العراقي طبقيا واخلاقيا وثقافيا واعزي نفسي بان هذا قد حدث بسبب غربة الروائي واغترابه سايكولوجيا عن وطنه العراق فكانت نظارته الالمانية المحدبة شديدة التحكم بقدراته البصرية النافذة كروائي اكثر من عينين عراقيتين صافيتي الماء والدمع.

اما من يدعى ب”نجم” وحاشا استاذنا العظيم الروائي “نجم والي” منه فلم يكن سوى شخصية سلبية ملقاة على رصيف الاحداث كظل لعدمية التواجد حقا تتلقي هبات المارين و تفكر بالتقبيل او بفتحة يرى من خلالهما ثديي امرأة اسمها “مرايا” كانت تحمل اسم معالي قبيل احداث دامية غير منطقية ومقنعة امامه بوقت قصير تضعنا امام فلم من نوع اكشن متأمرك اكثر مما يجب على واقع الانسان العراقي البسيط المتمكن تماما من تحديد حقيقة واحدة لا سواها تنطق بيقين لا مبالغة فيه:-

ان نجم البطل الذي تلقى الاحداث كما يتلقاها جدار صامت وصامد ليس من الناس الذين من الممكن ان تصادفهم في الطريق اثناء حرب الخليج الاولى او الثانية انما كان كيس رمل على تل من لحم القتلى وضحايا الاغتصاب لا اكثر وكان بالامكان رميه بعيدا عن مركز دوامة مهول لرواية تعج باحداث حربين دارت رحاها بين اعضاء تناسل ذكرية وانثوية ولم تصل الى ابعد من  كان بامكان الرواية ان تكون اكثر حيوية و قربا الى قارئها بدونه فقد ظل كشبح يرافقه وقد يتمنى كما تمنيت انا نفسي ان يتنحى عن دوره بمنحه اجازة مفتوحة وبلا تذاكر عودة.
وكما هو عدم ثقته من وجود الابطال انفسهم فقد كانوا هم ايضا يشكون بوجود المكان و الزمان ضمن القاء العشرات من الاسئلة التي تنتهي الى الشك ايضا بوجود العالم كله بما يقود القاريء عمدا الى محصلة تساؤل عظيمة حول ذاته وجدواها وجدوى الماضي والحاضر وانتظار المستقبل حتى تتشابك كرة الصوف و ترمى الرواية في ابعد مكان من الذاكرة لا لشيء الا لأنها تتحدث عما لم يحدث في العراق و ليس عما حدث.

تتوفر بعض الحقائق التي لابد من ادراجها في سياق علمي صرف :

اشتعال رغبة الانثى يحدث قبل الدورة باسبوع لغرض تلقيح البويضة سابقا نزول الطمث ثم تعود الى الاشتعال من جديد في العشرة المتوسطة بين دورة شهرية واخرى وفي كل الاحوال فان النظام الهرموني الانثوي يجعل من رغبتها بمستوى متقارب خلال الدورة بكاملها وهذا جانب من معاناة نساء الشرق ومتداول بينهن وبالتأكيد هو ليس حجة جيدة لرغبة انثوية عارمة في “التخلص من غشاء بكارة” مساو تماما لصميم التقبل الاجتماعي لها و ربما بقائها على قيد الحياة في مجتمع قاس وصارم تراجع وعيه الثقافي بشدة تحت نير سلطة لا ترحم الرجل قبل المرأة.

من البداهة ان نجزم ان ما من طفلة تحلم ان تكون قحبة فالدعارة لا تقوم على احلام الاطفال وامانيهم بل على اسس اقتصادية واخلاقية بالغة التعقيد تنتهي بإنشاء مؤسسات اقتصادية جشعة قادرة على هرس انسانية الرجل والمرأة وكل من دفعه الضياع ليكون تحت اسنانها الحادة التي لا ترحم لتلقي به جثة بأعضاء او بدونها ما ان تنعدم الحاجة اليه.

وعادة تزدهر وتتسع هكذا مؤسسات مع اندلاع الحروب.

يتضح التناقض الذي استبد بالروائي ونأى عنه بعيدا عن مرسى الحقيقة محصورا بين حلم اكثر من طفلة واحدة ان تكون مجرد قحبة ما ان تكبر وبين ما آلت اليه معالي نفسيا بعد المرور مر الكرام على ما تعرضت له من غدر واغتصاب حتى بلغ بها الامر انها لم تكن تعمل في بيوت الدعارة طلبا للمال او تحقيقا لحلم طفولة بل لتصفي حسابها مع الرجال بتعذيبهم “للشعور بنشوة هي ارقى بكثير من نشوة الاورجازم الطبيعية؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟”

واقعا و هنا بالضبط يعكس نجم والي سايكولوجية رجل ذي سطوة بمرايا مسلطة رغما عما يعتمل في دواخل نسائه ليلبسهن ثوبا مهترئا وفضفاضا وغريبا غربته عن وطن جهل ما حدث ويحدث فيه وان تتبع الاخبار لحظة بلحظة و هو مايتطابق حقا مع جزء من عنوان العمل الروائي متمثلا ب “مرايا مسلط”

ان الانامل التي امتلكها والي كان حريا بها ان ترسم صمود المناضلين في السجون … استمرار قتال الانصار في كردستان ….الاغتصاب الذي كان يتم يوميا للمئات من علماء ومثقفي ومثقفات العراق تحت الارض في سراديب ذهبت مفاتيح شفراتها مع جثث من كانوا على رأس السلطة لتضيع امال الالاف من امهات وابناء و ذوي المعتقلين في معرفة مصير مئات الالاف من ابناء الشعب العراقي الذين غيبوا وغابوا تماما دون اثر يذكر.

“أكان العراق ماخورا كبيرا؟”أهذا هو العراق؟

حقل “فطيم بي دي” و “معالي” و “اسيد لوتي” ان يمثلا العراق امام الشعب الالماني وكل الشعوب التي ترجمت الرواية الى لغاتها الخاصة بها.

كيف لخصت حقبة من اشد الفترات التأريخية ظلما ببضع عاهرات وقوادين؟

هل كل هذا ما على القاريء الالماني ان يعرفه عن وطن الكفاءات العلمية و الفكرية و العقول العظيمة والشعراء والادباء؟ ، الوطن الذي طورد و شرد اكثر من ثمانية ملايين من ابنائه في شتى اصقاع الارض و جميعهم من خير ما انجبت ارض وادي الرافدين ليضيعوا هناك فاقدي الهوية غارقين في عدمية مصير بلا ملامح؟

انني اشعر بأسف هائل على كل صرخة اطلقت في زنازن التعذيب في الامن العامة و ابو غريب و الشعبة الخامسة…بألم شديد على اطفال دفنوا احياء في المقابر الجماعية او دقت المسامير في ايديهم على الجدران امام الامهات والاباء او وضعوا في اكياس مغلقة مع قطط متوحشة لتمزقهم اربا اربا ليس لشيء فقط لأن اولياء امرهم يحملون فكرا مناهضا لديكتاتور مدعوم امريكيا وخليجيا ، و على شباب اعدموا بوضعهم في اقفاص اسود ونمور و كلاب جائعة لانهم ذادوا عن عوائلهم وشرفهم من رعديد عشق اغتصاب حسناوات العراق وتحنيطهن.

نشرت الرواية ولن يعرف احدا ما جرى خارج بيوت دعارة نسجها خيال روائي لم يكن موجود اصلا في العراق…لم تختطف اخته من قبل ابن الحاكم لتغتصب وترد الى اهلها مقطعة اشلاء مع بضع اوراق خضراء … لم تصادر اموال شقيقه مع اعدامه لان زوجة الحاكم ستشتري اغلى مجوهرات في العالم و ما من مال يمول متعتها سوى ما ملك تجار بغداد.

ماذا صنعت ببلدك يا نجم والي و اي جنوب واية قرنة ضمت هذا العدد الهائل من القحاب والقوادين؟الم يردك ان مهنة مترجم على هذا القدر من المسؤولية لا يمكن ان توكل لمواطن شيعي من البصرة؟ألا تعلم ان الحكومة قد انغلقت على الاقارب والمعارف المقربين جدا وان من يدخل بينها وبين قشرتها يقتل فور انتهاء الحاجة اليه؟اسمك يدل على انك من ارض الجنوب لا محالة و قد تحدثت بما لا يحق لك ان تقول عن جنوب الشرفاء وشمال المناضلين وبغداد صابرة و مازالت وان كانت روايتك قد اشتهرت و درت ربحا وفتقت جرحا في ذاكرة الادب العالمي.هنالك مجموعة من الاحداث الغريبة و التي تستند بالدرجة الاولى لجعلها في سياق رواية الى دراية تامة بحقيقتها علميا و طبيا :-_مقص القوادة “كوكة” الذي يدخل الارحام و يقطع الجنين الى اجزاء دون موت الام من شدة النزف؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

_ موت عاهرة اثناء ممارسة من الشرج بسبب انسداد الامعاء وهو امر يحتاج الى بضعة ايام ليحدث منتهيا بالوفاة ان لم يعالج و قطع عضو الرجل فورا لانهاء حالة الانسداد فيقضي نحبه في التو و اللحظة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

وجود باودر ما ان تغتسل به المرأة حتى يجهض الجنين؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟تحويل الاطباء مريضاتهم الى القوادات لاجهاض الاجنة و هو امر يسهل على الطبيب فعله داخل عيادة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

_ اما طريقة صيد سمكة الجصانية بدهن الجسد بحيامن ذكرها و لا ادري كيف تم جمعها رغم انها تموت بعد زمن قصير جدا و تتغير حالتها الفيزيائية فهو امر بحاجة الى بحث علمي مستقل!!!!!!.

هنالك شيء اخر لم استوعبه ابدا ان “مرايا” التي كانت حبيسة غرفة النوم و هي توأم “معالي” اصبحت في رمشة عين تجيد استخدام الاسلحة و تقتل العديد من الرجال مثل بطلة فلم امريكي … بل وتقتل من آذوا شقيقتها في مكان واحد و هم يمصون اعضاء بعضهم البعض مع الطعن بالسكين لتتبقى الرصاصة الاخيرة لمن بقي منهم على قيد الحياة و ايضا لا تخطيء في جعلها رصاصة قاتلة لا محالة.

هل كنا بحاجة الى هذه النهاية المفبركة والناس تموت كل يوم بأبسط مما ذهبت اليه مخيلة الروائي؟

ومالذي يعنينا من مترجم ومترجمة و قحبة و قوادة وكيف ماتوا وقد دفن الالاف احياء؟

قرأنا الكثير من الروايات عن الحروب و معظمها كان يتحدث عما حصل للشعوب و ليس عما حصل للقادة و خدمهم بتسلسلهم الهرمي و هذا ما يتوجب علينا ان نشحذ اقلامنا و نكتب عنه لان ما حدث في العراق ظل جزءا معتما خارج حدود العراق يجهله العرب قبل غيرهم وكان لابد من الايضاح …. الكثير منه …. و هذه الرواية قد اجهزت على شواهد الحقيقة و خدمت الديكتاتورية فمثيل ابطال الرواية لا يستحقون ان يحكمهم سوى من حكمهم واذا كانوا قد اختيروا لتمثيل شعب من قبل روائي فطن فعلى الشعب العراقي و شرفائه السلام.

ملاحظة:-

ما ذكر بين قوسين ” ” مقتطع اما من الرواية نفسها او من حوارات اجريت مع الروائي في جرائد المانية شهيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى