سعد الحميدي يؤرخ لـ”الصراع بين القوميتين العربية والتركية”

925 (Copy)

حدد المؤرخ الدكتور سعد بن ثامر الحميدي الخطوط التاريخية الدقيقة للصراع بين القوميتين العربية والتركية وأسبابه ونتائجه، كاشفًا

الغموض الذي يعتري مراحل تاريخية متعددة كانت وما زالت تتناول بالدراسة والتحليل هذا الصراع.

وأوضح المؤلف بدراسته ومؤلفه عن “الصراع بين القوميتين العربية والتركية وأثره في انهيار الدولة العثمانية” جوانب البحث التاريخي

المعتدل، بغية الوصول إلى الحقائق التاريخية المهمة التي تعد مـن مصـادر دراسـة علم الآثار والتاريخ.

يحتوي الكتاب على مقدمة وفصل تمهيدي وثلاثة أبواب، تناول الباب الأول مدخلا حول نشوء الفكرة القومية عند الأتراك وتطورها، ورواد الفكر

القومي التركي، والجمعيات والأحزاب القومية التركية، وتناول الباب الثاني تطور الفكر القومي العربي ورواد الفكر القومي العربي أيضًا،

بالإضافة إلى الجمعيات والأحزاب القومية العربيـة، ويناقش الباب الثالث “المؤثرات الدولية والمحلية وأثرها في ظهور وتصادم التيارات

القومية العربية والتركية”.

وقد شَكّلَ سقوط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة الإسلامية في الربع الأول من القرن العشرين، حالة عصية عن الاستيعاب للعقل والوجدان

العربى والإسلامي، وطيلة العقود التالية حاول البعض تحميل التيارين القوميين العربي والطوراني المسئولية التاريخية لما آلت إليه

السلطنة العثمانية والخلافة الإسلامية في أخريات سنواتها قبيل السقوط والتلاشي.

لكن في الحقيقة هناك ثمة أبعاد جدلية للعلاقة ما بين التيارات القومية والانهيار المروع لمؤسسات الدولة العثمانية وإفلاسها الإيديولوجى

والاعتبارى: أيهما كان سببًا أو نتيجة للآخر ؟ في علاقة طردية تشي بمغريات محفزة على البحث والاستقصاء بغية الوصول إلى الحقيقة

التاريخية النسبية أو المطلقة التي من شأنها فك رموز إحدى معضلات هذا الكتاب، على خلفية السببية التاريخية في صنع حركة وأحداث

الزمن وتفسير متغيراتها.

وكان الباعث المحفز على مثل هذا التساؤل المطروح سلفًا ولا يزال قائمًا بطريقة مباشرة أو بديلة هو: هل كان تنامي أطراف الدولة

العثمانية وتعدد الانتماءات السلالية والهويات الثقافية والحضارية لشعوبها، الأمر الذي يصعب معه السيطرة السياسية والإيديولوجية على

كافة هذه المتناقضات في إطار سياسي واحد أو معيار ثقافي محدد.

ومن ثم هل كان طبيعيًا أن تواجه الدولة العثمانية انفجارًا وانكسارًا حادًا في ولايات الأطرف، خاصة وأن الثورات والحركات التي ارتدت مسوحًا

دينية أو قومية، كانت تعبيرًا صارخًا عن هشاشة المشهد السياسي والثقافي بالدولة العثمانية.

ويناقش هذا الكتاب فرضية أساسية وإن كانت تطرح تساؤلات عديدة مفادها: هل كان الصراع بين التيارات القومية التركية والعربية بخاصة

سببًا في ضعف الدولة العثمانية، ومن ثم انهيارها؟ أم كان نتيجة لطبيعة الدولة العثمانية؟ كدولة عالمية مترامية الأطراف ومن ثم تعجز في

الدفاع عن ولاياتها البعيدة الممتدة في آسيا وأوربا وأفريقيا، ومما جعلها دائمًا عرضة للأطماع الأجنبية والثورات المحلية والحركات الانفصالية

خاصة في ظل التنوع البشري الفسيفيسائي – العرقي والديني – لرعاياها الناتج عن الاستيعاب القسري” الغزو ” أو الضم ” الطوعي”،

حالتي الحجاز والجزائر” للجماعات البشرية التي دخلت رعويتها على مدى القرنين الأول من عمرها، وصلت في الإجمالي إلى 60 قومية

وشعب وطائفة وملة مختلفة العقائد الدينية: مسلمين (سنة ودروز وزيدية وعلويين وأدارسة)، ومسيحيين (أرثوذكس وكاثوليك وبروتستانت

ومارونيين وكلدانيين ونساطرة وأقباط) ويهود (سفاردين وقرائين ودونمة)، مقتبسة في التعاطي مع تلك الجماعات على اقتباسها النظم

الحاكمية القديمة ( الفارسية والعربية الإسلامية والبيزنطية ) وتطوير نظام ” الملل ” لدولة المماليك السابقة في مصر والشام.

إلا أن النهضة الأوربية الحديثة شملت بتأثيراتها على الدول العثمانية جميع النواحي، خاصة بعد أن تجاوزت أوربا المعوقات الظلامية

القروسطية، لتعيش طورًا اجتماعيًا سياسيًا قوميًا، تمخض عن تبلور الدولة القومية الأوربية، في الوقت الذي كانت الدولة العثمانية لا تزال

ترزح في طبيعتها الإمبراطورية القروسطية التي عجزت بها عن التعايش مع النظام العالمي السائد في القرن التاسع عشر– المعروف بـ:

عصر القوميات – فأضحت بهذه الطبيعة والعالم من غيرها يتغير عرضة للأطماع الأجنبية والحركات الانفصالية والهزائم العسكرية المتتالية.

ما دفع النخبة العقلانية الحاكمة إلى السعي لإصلاح وتحديث مؤسسات الدولة الهرمة فتبنت النموذج الأوربى للتحديث على كافة المستويات

وبالتدريج، وإن كانت بدأت بالمؤسسة العسكرية الذراع الحامي لممتلكات الدولة ووحدة أراضيها.

معتبرة في ذلك بالتجربتين الروسية والمصرية في التحديث واللتان سبقتاها بعشرات السنين وانتصرت عليها الأولى في معارك وحروب لا

حصر لها، وأيضًا انتصرت عليها التجربة المصرية في بضع معارك.

فكانت المحاولات العثمانية للتحديث بمثابة استجابة لتحديات إقليمية في الأساس متخذة في ذلك آليات ومفاهيم تحديثية أوربية غريبة كليًا

عن المجتمعات العثمانية الشرقية، فلقيت هذه الآليات والمفاهيم قبل أن تترسخ معارضات محلية قومية وبدلًا من أن تستفيد النخبة

العثمانية من الإصلاح والتحديث لإنجاز تجديد بنيوي ومؤسسي من الداخل ضمن شروط الواقع العثماني الموضوعية وميراثه التاريخى

والإسلامى فإنها اضطرت – نظرًا لإلحاح الضغط الخارجي وفقدها للرصيد الحضاري – للاستسهال باستيراد النماذج الأوربية الجاهزة للإصلاح،

مما عرضها لشروط إخضاع جديدة دون الاعتبار للكلفة الاجتماعية والاقتصادية لهذا الأداء الذي وضع الإمبراطورية قاب قوسين أو أدنى من

الهاوية.

وكانت الهاوية في التاريخ العثماني الحديث بمثابة التنظيمات التي أعلنت اعتراف السلاطين نهائيًا بشروط الاستسلام الحضاري للغرب.

وهكذا وضعت النماذج الأوربية للتحديث الدولة العثمانية على طريق نهايتها كدولة إسلامية، فعلمنة القوانين قد سحب من الدولة العثمانية

شرعيتها في أنظار المسلمين ناهيك أن عدو الدولة أصبح داخليًا، فالتوغل الأوربي شمل جميع المستويات حيث كان المؤثر الأوربي كاسحًا

في التعاطي الأدبي مع الأنماط والمدارس الأوربية وبلورة وعي ومفاهيم النخب المثقفة التي تاهت في محاكاة منقطعة النظير مع السائد

الأوربي في التطور الاجتماعي والتغيير السياسي، وبخاصة الاتجاهات القومية والوطنية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع

عشر وبدايات القرن العشرين وكانت بداياتها الأولى كحركات أدبية ولغُّوية ثم صارت تظهر في الأبحاث التاريخية ومن بعدها انتقلت إلى العمل

السياسي.

ورغم أن الأتراك العثمانيين كانوا – حكومات وشعبًا – مرتبطين بفكرة “الوطنية العثمانية” ارتباطًا شديدًا وبعيدين عن الشعور بالقومية

التركية واستمرت الأحوال على هذا المنوال حتى أواخر القرن التاسع عشر، بل وحتى أواخر العقد الأول من القرن العشرين، إلا أنهم عندما

تبنوا الفكر القومي، حرقوا مراحل تطور النشاط القومي بسرعة ماراتونية من تتريك اللغة والأدب والتاريخ إلى تترييك الدولة ومؤسساتها

ومحاولات تتريك الشعوب العثمانية جميعها.

بعكس الفكر القومي العربي الذي مثل في آخريات سنوات الدولة العثمانية استجابة للتحديات التي واجهت الأمة العربية في هذه الفترة

المتمثلة في الاحتلالات الاستعمارية التي تزامنت أو نتجت عن ضعف الدولة العثمانية اقتصاديًا وعسكريًا.

وبدأ القوميون العرب بالاهتمامات الأدبية واستعادة الأمجاد الغابرة في الأدبيات الثقافية والفكرية وكردات فعل للشوفينية التركية الطورانية.

ومثلت سنوات الحرب العالمية الأولى، مرحلة فارقة في تاريخ العلاقات العربية / التركية الممتدة لأربعة قرون مضت، حيث تبلورت فكرة

الإنفصال، وأضحت تتجاوز ما سبقها من أفكار وتوجهات في العلاقات القائمة، من نيل الحقوق والمساواة ثم اللامركزية في الحكم على القول

الفصل في علاقات بين قوميتين تشكلان عنصري دولة إمبراطورية قروسطية على أعتاب القرن العشرين، رغم أن فكرة الإنفصال لم يتم

الإعلان عنها فجأة، لأنها بدأت في أولها غامضة ومشوشة ومتوترة، إلى أن جاءت الحرب وفرضت نتائجها المروعة تغييرًا قسريًا لواقع مترهل.

فعندما تدخل دولة هرمة حربًا دائرة بين فرقاء أقوياء، كل ما تملكه فيها من أسلحة هي أعباء ميراثها الإمبراطوري المتداعي، ومراهنات

واهية على قوة وفرص انتصار أحد الفرقاء يكون حالها هو ما آلت إليه الدولة العثمانية من مصير.

فبعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، وأفرزت نتائجها واقعًا جديدًا في الشرق العربي بعد زوال الحكم العثماني منه ومن الوجود كله ولم

يتبق من الدولة العثمانية سوى أشلاء ولايات جميعها خاضع لقوات احتلالات أوربية منتصرة في هذه الحرب تسعى لتنفيذ أجندتها السياسية

وفق مشاريعها الإستعمارية عبر وعود تسويات واتفاقيات أبرمت أثناء الحرب ( وعد للعرب باستقلال مبهم، ووعد لليهود بإقامة وطن قومي

لهم في فلسطين، واتفاقية سايكس/بيكو) وبعد الحرب ( مقررات مؤتمر المنتصرين بفرساي 1919، ومعاهدة سيفر1920، ومعاهدة لوزان

1924) لم يتبق من الدولة العثمانية أثناءها من 1918 – 1924 إلا السلطان ( بقصر لا يملك الدفاع عن أسواره، واسم منصب بدون أي

حيثيات ) أما رعاياها فلم يجنوا إلا قبض الريح بعدما تحصلوا على كيانات سياسية ( دول وإمارات جنينية مشوهة) خاضعة جميعها للانتدابات

والاحتلالات الأوربية في الحجاز وسوريا والأردن والعراق والأناضول.

ورغم ما تملك رموز وقادة القوميتين ثمة استعدادات مسبقة للتعاطي مع الانفصال بينهما من خلال فصل الخلافة عن السلطنة، وتباين

استيعابهم لإلغاء الأخيرة، بعكس ما وقع من تغيير قسري فرض عليهم بإلغاء الخلافة وهو ما لم يكن لهم استعدادات لقبوله، أو تصورات لواقع

حالهم ومصيرهم بدون الخلافة، التي مثّل إلغاؤها – إلى جانب كونها صدمة مروعة – الأداة الناجعة التي حققت الافتراق التاريخي بين

القوميتين العربية والتركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى